منذ أواخر أربعينات القرن الماضي،بدأت الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي،ومع ظهور الأسلحة النووية،أصبحت الحاجة إلى ملاجئ ضد النووي أمرا ملحا، لذلك لجأت الحكومات إلى حفر وتجهيز ملاجئ تمكنها أن تصمد في وجه أي هجوم بقنابل نووية، والملجأ النووي هو عبارة عن مساحة محكمة الإغلاق مصمم لحماية من يعيش بداخلها من المخلفات الاشعاعية أو التهاطل النووي الناتج عقب الانفجار النووي، وغالباً ما تكون تحت الأرض، وفى روسيا تم بناء الملاجئ على شكل كروي، وهي ليست عميقة جدا، ولكن في نفس الوقت فعالة جدا، فهى محاطة بمادة “امتصاص الصدمات” التي تحمي من بداخلها من موجات الانفجار في حالة حدوث قصف نووى،كما توفر هذه الملاجئ مساحات كافية للبقاء فيها لأسابيع، أو حتى أشهر، جنبا إلى جنب مع المواد الغذائية الضرورية، وكانت بالطبع من أهم أسرار الدولة السوفيتية، التي تم الكشف عنها فقط بعد تفكك الإتحاد السوفيتى، ومن بين تلك الملاجئ والتى تم الكشف عنها مؤخراً هو ” Bunker-42 والذي يُطلق عليه حالياً اسم “متحف الحرب الباردة” في حى” تاجانكا” كما يسميه الروس،وهو مجمع سياحي فريد من نوعه،لا يوجد له مثيل ليس فقط فى روسيا بل فى العالم، باستثناء مخبأ ستالين المحصن في حى إزمايلوفو فى موسكو، لكن كيف تحولت تلك المنشأة السرية إلى متحف؟ هذا ما سنعرفه فى السطورالتالية.
البداية:

بناءً على نتائج التجارب النووية التي أجريت في الاتحاد السوفيتي عام 1949، كان من المفترض أنه في حالة وقوع هجوم نووي، سيصبح ” Bunker-42″ ملجأً عسكرياً محصنا لحماية كبار مسؤولي الدولة في حال تعرض البلاد لضربة نووية، وسيكون محمي تمامًا من جميع العوامل الضارة الناجمة عن أى انفجار نووي، تم اختيار مكان البناء أحد أحياء موسكو القريبة من الكرملين، حتى يتمكن ستالين وإدارة الدولة والجيش من الوصول إليه بسرعة في حالة وقوع حرب نووية ، كذلك كان من شروط إختيار المكان أن يكون به مبانى سكنية كثيرة،وقع الإختيار على حى تاجانسكي، وفي سرية تامة بدأ في عام 1950 حفر قبو تحت الأرض، على عمق 65 مترا (١٨ طابقاَ تحت الأرض )،و الغريب في الأمر هو أن سكان الأحياء القريبة لم يلاحظوا أي شيء عن عملية الحفر، على الرغم من استخدام معدات وشاحنات لنقل ما يقارب 25 ألف متر مكعب من التربة المستخرجة من تحت الأرض، علماً أنه لا يمكن في حقيقة الأمر أن يتم العمل على إنشاء مثل هكذا منشأة دون أن تثير اهتمام السكان المحيطين، ملايين من السكان مروا خلال 70 سنة فوق هذا المكان، دون أن يعرفوا أن هناك مخبأً سريا، فقد كان مدخله مموها على شكل بناية سكنية بجانب محطة مترو الأنفاق وسط موسكو (محطة تاجانسكي)،وتم بناء مبنى من طابقين فوق الحفرة العميقة،يشبه مبان هذا الحى، له نوافذ زائفة، مضاءة حتى في الليل، مما جعله يبدو وكأنه مبنى سكنى عادى.

يتكون المخبأ من 4 وحدات نفقية بقطر 9,5 م، وتتواجد الوحدات الأربعة تقريبا على مستوى واحد، تتصل بين بعضها بممرات و موازية لبعضها، فوقهم قبة واقية سمك جدران القبة الواقية 6 أمتار ، وهي مصنوعة من الحديد الزهر والخرسانة المتينة، تم تركيب القبة على أساس خاص بحيث لا تسمح للقبة بالتحرك نتيجة تأثير موجة الانفجار.

شارك في بناء هذا الملجأ أربعة ألاف شخص من أفضل الخبراء في بناء محطات المترو تحت الأرض، علماً أن كل واحد منهم وقع على وثيقة تحظر عليه الإفشاء بأسرار الدولة وهذه الوثيقة لا تسقط بالتقادم، وعلى مدى تسعة أشهر قام الخبراء بالعمل فى”Bunker-42″ دون أن يغادر أحد الموقع الخاص، حيث كانوا يتناولون الطعام في غرفة خاصة تم بناؤها في الموقع بالإضافة إلى أنهم كانوا يقضون لياليهم في أماكن تحت الأرض بالقرب من الموقع.
في عام 1952 ، تم الانتهاء من بناء الهياكل الرئيسية للمخبأ،بحلول صيف عام 1953، تم تركيب أنظمة دعم الحياة، من أبريل 1954، بدأ أول رجال الإشارة العسكريين والمدنيين العمل في المنشأة ، تم وضع الاتصالات وتركيب المعدات اللازمة.
محطات تاريخية:
بين عامي 1955 و 1956، جرت في “Bunker-42” عملية نشر المعدات وأجهزة الإتصالات مع أفواج الطيران الاستراتيجي في جميع أنحاء البلاد،بينما تولت وزارة الإتصالات السوفييتية عملية نقل البيانات الحكومية والعسكرية المشفرة داخل الاتحاد السوفييتي،وبلدان حلف وارسو المعادي لحلف الناتو،تم استخدام أكثر من 1000 جهاز إرسال عالي التردد في جميع أنحاء البلاد للحرب الإلكترونية ونقل الرسائل إلى الطائرات، واستخدمت إحدى قاعات المخبأ كمقر لقيادة الطيران الإستراتيجي لمدة ثلاثة عقود، بما في ذلك أثناء أزمة الكاريبي في عام 1962، حين كان العالم على حافة حرب عالمية ثالثة باستخدام السلاح النووي،و كانت قيادة القاذفات الاستراتيجية التي تحمل أسلحة نووية تعمل فى هذا المخبأ النووى حتى عام 1986 ،ثم إنتقلت إلى مكان آخر.

بعد تفكك الاتحاد السوفيتى وفي عام 2007 فى أحد عمليات إعادة إعمار لمدينة موسكو تم إكتشاف المكان وتم تحويله إلى متحف وفتح أبوابه أمام أول المجموعات السياحية، العنصر الرئيسي للمتحف، هو الملجأ بحد ذاته وهندسة ممراته وقاعاته، ففي أحد قاعات العرض بالمتحف توجد محطة إتصالات لاسلكية سوفييتية عمرها نصف قرن، بالإضافة إلى بدلات الحماية من المواد الكيميائية، وأقنعة مضادة للغازات، وملصقات دعائية سوفييتية ،ونسخة من أول قنبلة نووية تم إختراعها فى الإتحاد السوفيتى ،وقاعة عرض سينمائي، ونسخة من معدات وآلات مركز القيادة المركزية، وغرفة طعام، ومنطقة ترفيه، فضلا عن الغرف مع النظم الهندسية من معدات التهوية وتصفية المياه وتوليد الطاقة.

كل زائر لدى دخول المتحف، يحصل على تصريح دخول أحمر مع شعار وزارة الدفاع السوفييتية، مع إسمه وصورة للمخبأ -42.