إن من يزور روسيا اليوم يفاجئ عند ما يعرف أن فى روسيا مدن كاملة ومقاطعات أغلبية سكانها مواطنون روس مسلمين الديانة أبا عن جد ؟ فمثلاً فى مدينة “كازان” عاصمة تتارستان حالياَ أغلبية سكانها مسلمين، وأيضا مدينة “أوفا”عاصمة باشكورتوستان وهما يتبعان الاتحاد الفيدرالى الروسي ، بالإضافة إلى كل من داغستان، والشيشان،وإنجوشتيا،وقبردينو- بلقاريا أيضاً مسلمين، لم نكن نسمع عنهم من قبل ! بل كنا نعرف أن الاتحاد السوفيتي هو دولة إلحادية شيوعية تتبع الماركسية اللينينية ، وكانت ضد الدين بشكل صريح وواضح ، غريب ! إذن كيف ؟ و متى ؟ جاء الاسلام إلى تلك البلاد الباردة والشاسعة المساحة ! ولكى نتعرف أكثر كان علينا أن ننتقل بآلة الزمن ونعود بالتاريخ الى العصور الوسطى وبالتحديد القرن السابع الميلادي لنتعرف على أحداثه ومن هم اللاعبين الرئيسسين على الساحة الدولية فى ذلك التاريخ ؟
خريطة العالم القديم:

*الروم والفرس وسلسلة من النزاعات بين دول العالم اليوناني الروماني تركت كلا الطرفين منهكين، وفى بداية القرن السابع ظهرت الدولة الإسلامية الجديدة القادمة من الجزيرة العربية وتمددت وتوسعت حتى القدس وباقي بلاد فارس ثم مصر ومنها توسعت حتى إسبانيا أما عن منطقة شرق أوربا وأواسط آسيا فكانت عبارة عن ممالك وإمارات متفرقة يعيش فيها قبائل وشعوب مختلفة ، منهم:
*إمارتي :”بلغار الغربية” والتى كانت تقع في منطقة البلقان ، و“بلغار الشرقية الشمالية” والتى كانت تقع في حوض نهر الفولجا ، تشكلتا بعد تفكك “مملكة بلغارالكبرى “و التي كانت تمتد حدودها من سواحل بحر قزوين وحوض نهر الفولجا في الشرق إلى منطقة البلقان في الغرب ،“إمارة بلغار الغربية “ اعتنقت المسيحية رسميا في عام 863 م وعلى أساسها تشكلت دولة بلغاريا الراهنة ،و”إمارة بلغار الشرقية الشمالية “التي كانت تقع في حوض نهر الفولجا اعتنقت الاسلام رسميا في القرن العاشر الميلادي على أثر زيارة أحمد بن فضلان إلى هذه المنطقة التي تقع عليها حاليا جمهورية تتارستان الحالية وعاصمتها كازان
*كما كانت توجد قبائل الخزر، و تقع في دلتا نهر الفولجا وشمال غرب البحر الأسود ،موقعًا رئيسيًا إستراتيجيًا على المعبر الحيوي الواقع بين البحر الأسود وبحر قزوين، الخزر هم القبائل التي تنتمي الى العرق التركي والتي هاجرت في القرن السادس الميلادي الى منطقة القفقاز تاركة موطنها الأصلي في منطقة وسط آسيا الصغرى ،وفي منتصف القرن الثامن الميلادي ولأسباب اعتبرت تكتيكية أكثر منها دينية إعتنق الخزر الديانة اليهودية ليكونوا بمنأى عن الصراع الدائر بين القوتين العظمتين : الإسلامية والبيزانطية ،
*وبينهما امارات سلافية فى شرق أوربا مفككة منهم دولة كييف روس على نهر الدينيبر ( جزء من دولة أوكرانيا حاليا )
في عهد الخليفة عمر بن الخطاب:

فى عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وصل العرب المسلمون إلى بلدة أطلق عليها العرب إسم مدينة “باب الأبواب”، وهى إحدى مدن جمهورية الداغستان التى تقع فى شمال القوقاز بجنوب روسيا الاتحادية حالياً ،و أيضاً فى عهده رضي الله عنه، ما بين سنتي (18- 24هـ / 638- 644م)، فقد قاد الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه حملته إلى أذربيجان وأرمينيا، وقد تم توقيع الصلح على يد قائده عتبة بن فرقد السلمي، وقاد الحملة الثانية إلى الشرق من البلاد التي توجه إليها حذيفة الأحنف بن قيس، ففتح أراضي الديلم وطبرستان، وأفغانستان.
في عهد الدولة الأموية:

في عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، تواصل امتداد الفتح الإسلامي حتى عبر الصحابي الحكم بن عمرو الغفاري سنة (50هـ- 670م) نهر جيحون وفتح بلاد أوزبكستان، ثم توالت الفتوحات ، ففتح عبد الله بن زياد بخاري وبيكند سنة (55هـ – 674م) ، ثم جاء سعيد بن عثمان ففتح سمرقند، وفي تلك المعركة استشهد الصحابي قثم بن العباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفتح موسى بن عبد الله بن خازم، ترمذ (بلد الإمام الترمذي) سنة (70هـ-689م)، ثم جاء بعده قتيبة بن مسلم الباهلي، الذي يعتبر بحق فاتح بلاد ما وراء النهر، ووطد الإسلام فيها، ما بين سنتي (88- 96هـ / 706- 714م)، حيث وصلت جيوشه إلى حدود الصين، ووطد أركان الإسلام ب تركمنستان وطاجكستان وقيرغيزيا.
رحلة أحمد بن فضلان إلى بلاد الترك والروس والصقالبة

على مدى ٣ قرون ما بين القرن السابع وحتى العاشر حروب ونزاعات دولية تنهار امبراطوريات كبيرة وتظهر قوى أخرى على الساحة، وتتغير خريطة العالم ،حتى وصلنا إلى الدولة العباسية والتى كانت دولة عظمى فاقت بإشعاعها الفكري الوهاج وحضارتها الخصبة المتلألئة، وصارت عاصمتها “بغداد” كعبة طلاب الشهرة فقصدها العلماء والمفكرون والكتاب والشعراء والأطباء والفنانون وأصحاب الحِرَفِ والتجار من كل جنس ومجموعة ،و فى فترة الخلافة العباسية كان فيه “إمارة بلغار الشرقية “عند التقاء نهرى الفولجا والكاما والموجودة حاليا فى أراضى روسيا (جمهورية تتارستان)، فقد تم اعتناق الإسلام كديانة رسمية عام (310هـ- 921م) كما ذكرنا فى خريطة العالم القديم أعلاه ، وبدأت القصة عندما أرسل ملك البلغار “ألمش بن يلطوار” ( ملك الصقالبة) وفداً إلى الخليفة العباسي المقتدر بالله في بغداد ،طالباً منه أن يرسل معهم من يعلمهم الإسلام وأحكامه، ويبني له مسجدا وينصب له منبرا ليقيم عليه الدعوة له في بلده وجميع مملكته، ويسأله أن يساعدهم فى بناء حصن يتحصن فيه ولحماية البلغار من تهديدات الخزر الذين كانوا على دين اليهود؛ وقد أرسل الخليفة العباسي المقتدر بالله بعثة على رأسها ابن فضلان (أحمد ابن فضلان من أشهر الرحالة المسلمين العرب الذين كان لهم السبق في الكتابة عن الروس ) إلى ملك الصقالبة، وبوصول ابن فضلان إلى مجلس الملك ،اعتنق الإسلام، وكان بمعيته وفد من العلماء والفقهاء ورسول ملك الصقالبة المسلم بارس الصقلبي ، فالرحلة استغرقت سنة تقريبا ما بين أنهار وبحار ومغامرات من بغداد حتى الاراضى الروسية وقد كان ابن فضلان يسجل كل ما يراه أثناء الرحلة ،والمدهش فى الامر أن ما كتبه ابن فضلان، والمدهش فى الامر أن ما كتبه ابن فضلان إعتبر من أفضل ما كتب في تاريخ الحياة الاجتماعية لسكان حوض نهر الفولجا عن الروس والبلغار والصقالبة فقد تميز ابن فضلان بوصفه الدقيق بأسلوب ممتع وشييق ،و لا زلنا ننعم بعد مضي ما يزيد على ألف عام بالصور التي نقلها عن عادات تلك الشعوب وتقاليدها، وحياتها الأخلاقية في ذلك العصر، وكان دقيق الملاحظة، يسجل أكثر مِـمَّا يريده السائح، فيصف الحكم والأمراء، ورجال الشعب على حد سواء ، وحاليا يعتبر ما كتبه من أفضل وأهم المصادر في التاريخ الروسي لتلك الفترة حتى اليوم.
محطات تاريخية للإسلام فى روسيا

مرت أحداث كثيرة غيرت شكل الدولة الروسية وأحياناً كانت تتصالح مع المسلمين على أراضيها وأحيانا تقصوا عليهم وتهجرهم مدنهم إلى آماكن أخرى داخل الأراضى الروسية حسب سياسة الحاكم وأهداف الدولة ،لكن هذا لم يمنع المسلمين الروس عن التمسك بدينهم ونذكر هنا محطات هامة للإسلام والمسلمين فى روسيا كانت مؤثرة منها :
*في عام 1245 بركة خان أول حاكم مغولي يعتنق الإسلام ، أحد أحفاد جنكيز خان وهو ابن “جوجي خان” حاكم القوقاز
* في عام 1312 خلال فترة حكم أوزبك خان صار الإسلام دين دولة “الاورطة الذهبية” وعلى الرغم من أن الروس كرهوا التتر وتمكنوا في نهاية المطاف من التحرر منهم على يد الأمير دميتري دونسكوي ( أمير موسكو) عندما هزم قوات الأورطة في المعركة الحاسمة في معركة كوليكوفو في عام 1380، واستمر الروس يدفعون جزية أقل قيمة لمئة عام أخرى حتى تحررهم الكامل ، على يد ايفان الرهيب الذى ضم كازان إلى مملكته ولقب نفسه بالقيصر ، الا أن حروبهم ضد الأورطة لم تتسم أبدا بطابع ديني ولم يكن بين شعاراتهم شعار الحرب ضد الإسلام وإنما سعياَ وراءالمصالح التجارية ومحاولة السيطرة على طرق التجارة وقتها
*بداية القرن الرابع عشر بدأ تحول روسيا إلى دولة متعددة الأعراق والأديان بغزو قازان ثم استراخان ،و يعتبر العديد من الباحثين هذه اللحظة التاريخية كنقطة انطلاق لتشكيل الإمبراطورية الروسية ،دولة أصبحت ساحة للتفاعل بين أكبر ديانتين في عصرنا: المسيحية (في نموذجها الشرقي) والإسلام، وشارك التتار المسلمون في تحرير روسيا من البولنديين في عام 1612، ووقع اعيان التتار المسلمين على وثيقة انتخاب ميخائيل رومانوف على عرش روسيا في عام 1613 ، وبالتالي دعم فكرة الدولة الروسية الموحدة ، كانت العلاقات بين الدولة الروسية والمسلمين الذين أصبحوا من مواطنيها في القرنين السادس عشر والسابع عشر، معقدة الى درجة كبيرة، علما بان الدولة الروسية كانت تضم تدريجيا الخانيات التي تأسست في مكان الأورطة الذهبية بعد تفككها (وهي خانية سيبيريا وخانية أوزبك وأورطة نوغاي وخانيات قازان والقرم
*في عام 1722و بناء على طلب بيتر الأول تمت الترجمة الروسية للقرآن
*أما الامبراطورة كاثرين الثانية أعلنت مبدأ التسامح الذي كان رد فعل على الحاجة الملحة لسياسة دينية مرنة فيما يتعلق بالسكان غير الأرثوذكس في الإمبراطورية ، والمسلمين في المقام الأول، أصبح مبدأ الولاء المتبادل (ولاء الحكومة في مقابل ولاء السكان) مهيمناً على الطائفية بشكل عام ، وعلى سياسة المسلمين بشكل خاص. كانت الخطوة التالية هي الانتقال من الاعتراف بحقوق المجتمع المسلم إلى اندماجها في نظام للإمبراطورية الروسية
*وفي عام 1831 خلال فترة حكم الامبراطور نيقولاي الأول تأسست الإدارة الدينية لمسلمي تافريدا (الاسم القديم لشبه جزيرة القرم) التي كانت تهتم بشؤون المسلمين في المناطق الجنوبية والغربية للامبراطوية الروسية
* وتبنت الحكومة الروسية في عام 1857 في بداية حكم الامبراطور الكسندر الثاني “ميثاق الشؤون الروحية للأديان الأجنبية (غير المسيحية الأرثوذكسية)”، وكان فيه باب مكرس لشؤون المسلمين
*وخلال فترة انهيار الامبراطورية الروسية 1917-1918لم تبد الشعوب غير الروسية في هذه المنطقة اية نزاعات انفصالية على غرار ما حدث في المناطق الاخرى
المسلمين الروس في زمن الاتحاد السوڤيتي :

مثل الديانات الأخرى ، كان المسلمين يتعرضون للظلم والاضطهاد ،وتم إغلاق الكثير من المساجد ،وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991م حدث تحول كبير حيث تغيرت السياسة الدينية الروسية وأصبحت هناك تشريعات تتيح حرية الاعتقاد لكل مواطن روسي، وحاليا يوجد ٦ست جمهوريات سوفيتية سابقا (اذربيجان وكازاخستان وقيرغيزيا وطاجيكستان وتركمانيا واوزبكستان) تنتمي الى العالم الاسلاميِ
أوضاع المسلمين فى روسيا الفيدرالية

يعتبر المسلمون في روسيا اليوم هم الديانة الأكبر بعد الديانة المسيحية الارثوذكسية ، حيث يبلغ عدد المسلمين فى روسيا من 25 إلى 30 مليون مسلم، علما بأن عدد سكان روسيا الإجمالى يبلغ ما يقارب من الـ 145 مليون نسمة أى أن حوالى 20% من الشعب الروسي هم من المسلمين ، يتوزع المسلمون في روسيا على 40 قومية أكبرها التتر( 5 ملايين مسلم) يأتي بعدهم البشكير (حوالي مليون شخص)، والشيشان الذين يشكلون( مليون مسلم تقريبا )،يتوزعون فى ما بين شمال القوقاز، حيث تستوطن هذه المناطق عدة أعراق؛ كالبلكار، والشركس، والكراشاس، والداغستانيون، والشيشان، والأنجوشيا، والقبردينو، ومناطق حوض الفولجا، وفي العاصمة موسكو يصل عدد المسلمين إلى 3 مليون مسلم ما بين سكان أصليين ومقيمين، الأكثرية العظمى من مسلمي روسيا هم من المسلمين السنة، الذين ينتميون إلى مدرستين فقهيتين، هما الشافعية في شمال القوقاز، والحنفية في المناطق الإسلامية الأخرى، وبعض فرق صوفية في شمال القوقاز تحديداً، وتشهد روسيا في العقدين الأخيرين نهضة إسلامية نشطة فيجري تشييد المساجد (وصل عددها إلى أكثر من 4 آلاف) ،وتوجد فى موسكو أربعة مساجد وفى النية القيام خلال السنوات القادمة بتشييد 11 مسجدا آخر في العاصمة الروسية ،يوجد المركز الثقافي الإسلامي في العاصمة موسكو،كذلك هناك الجامعة الإسلامية الروسية بمنطقة تتارستان ومقرها مدينة كازان،كما في داغستان توجد كل من الجامعة الإسلامية ومعهد العلوم الدينية والعلاقات الدولية، ويتزايد عدد الذين يؤدون فريضة الحج عاماً بعد عام. فقد أدى فريضة الحج في السنة الماضية16 ألف شخص وينوي أداء فريضة الحج في هذه السنة حوالى 25 ألفا روسي مسلم كما فتحت فى العاصمة موسكو الكثير من محلات الطعام الحلال.